الصلاة.. رحلة روح ومعراج قلب
الصلاة معراج المؤمن، ودليله النوراني، وسفينة السائرين من أصحاب الإيمان وطائرتهم، وأقرب المنازل والديار لعوالم وراء هذه الدنيا للسائرين الذين يبتغون الوصال، ويبتغون القرب، وآخر خيمة لهم، وأقرب الوسائل لبلوغ الغاية والمرام.
وفي الوقت نفسه نستطيع أن نطلق على عبادة الصلاة -التي هي الاسم الآخر والعنوان الآخر للقرب من الله والتي تملك أعماقا مختلفة- اسم "الرباط" الذي يعني الاستغراق في فكر العبودية لله طوال العمر.
أما الوضوء فهو أول تنبيه في درب الصلاة، وأول تهيؤ لها. والأذان فدرب معنوي مهم. بالوضوء يتطهر الإنسان من الدنس البدني ومن السلبيات المعلومة وغير المعلومة، ويستمع الإنسان بالأذان إلى وجدانه.
وعندما يصلي وحده الصلاة الأولى يحاول أن يجد الصوت الداخلي في أعماقه وأن يقتنصه، ثم ينتظر صلاة الجماعة لكي يحقق بالجماعة البدء بالحركة الكبرى.
إن هذه العبادة المباركة ذات الأبعاد الشاملة وذات الطابع المعراجي تقوم بنقل الإنسان إلى سماء اللانهاية لتصل به إلى عالم الملائكة. والإنسان يدع نفسه في لجة هذه العبادة خمس مرات في اليوم وكأنه يتطهر ويغتسل في جدول دافق.
وفي كل مرة ننغمر فيه في هذا الجدول نشعر بأننا تطهرنا أكثر. ثم ينقلنا هذا الجدول إلى بحر واسع، ويتجول بنا بين نقطتي البداية والنهاية، وهذا يعني تمرينات لنقلنا إلى نقطة من عالم الآخرة والخلود هي خارج أبعادنا الاعتيادية.
وفي اللحظة التي يفيض ويحين وقت الأذان من خلال ضجة الحياة، أو من خلال الصمت المخيم عليها، ومن إشارات عقارب الساعة، ومن تغيير الشمس لموضعها، وزيادة الحركة والضجة حول الجامع، ومن سماع خرخشة مكبرات الصوت، بينما يحاول المؤذن تغيير صوته تهيؤا للأذان.
بعد كل هذه الإشارات حول قرب وقت الصلاة، تبدأ في الصدور أحاديث صامتة، وسماع أصوات غير واضحة المعالم مثل هذيان المستيقظ توا من النوم، وسماع كلمات تتجاوز أبعادنا الجسمية، وكأن الإنسان بدأ يعيش حياة برزخ بين الدنيا والآخرة.
وتبدأ أحاسيس أخرى بالظهور نتيجة مناورات الفكر، ومحاولته البحث عن مجارٍ وقنوات جديدة. ويدمدم الإنسان بأشياء لا تعد ولا تحصى.
وهنا وبعد قليل وقبيل بدء العبادة المزمع لإقامتها تتوجه القلوب إلى نوع من التوثب والتركيز الروحي. وتحاول بمعاونة جميع الملكات الروحية والقابليات الوصول إلى حالة من التهيؤ والاستعداد المرجو.
يمكن أن يعد التوضؤ أول خطوة للتهيؤ لعالم العبادة، ثم يأتي التوجه نحو المسجد. أما الأذان فكأنه دعوة للدخول إلى الحرم، وصوت لدني يساعدنا للوصول إلى تركيز معين في أعماقنا، وريشة عود تضرب على أوتار أحاسيسنا.
ومع أن آذاننا تعودت على صوت الأذان الذي يتكرر كل يوم، فإنه يظهر أمامنا فجأة على الدوام وكأنه قمر يرتفع من وراء التلال الموجودة بيننا وبين العوالم الأخرى. ويقصف كالرعد ليحول أنظارنا الدنيوية إلى السماء.
وهنا يبدأ فاصل موسيقي إلهي كأنه صوت نافورة فوارة أو صوت شلال هادر. وما إن يبدأ هذا حتى ينهمر على أرواحنا أعذب ألحان الدنيا.
نطرب بالأذان وكأننا نغتسل في جدول من الموسيقى، ونجد فيه سحرا آخر وطعما آخر ولطافة وسعادة أخرى. ويثير سماعه وحدس معانيه شعورا وكأننا نرتفع إلى الماء ضمن سلم حلزوني سحري، أو نتجول ببالون في الأعالي.
وأما إن كان الأذان يؤدى على أصوله وكصوت للوجدان؛ فما أرق دقائق الأذان وما أنورها عندما يتردد صدى هذا الأذان المحمدي في السماء ويتماوج!
وبعد أن يتم بالأذان التهيؤ المعنوي، وقبل الإبحار في بحار القرب من الله قبل صلاة الفريضة تعد صلاة النافلة، ثم إقامة الصلاة فترة استقبال لنسائم الرحمة الإلهية على الأرواح. وتتم في أوتار ضمائرنا عملية تنظيم لمشاعرنا الإنسانية النابضة في قلوبنا.
ولا شك أن الصوت الحقيقي يبدأ بالسلوك المشترك والمشاعر المتوحدة للجماعة التي تقف تجاه القبلة، وتصطف خلف الإمام وقد عقدوا أيديهم أمامهم تعبيرا عن التوقير والاحترام. يركعون ويسجدون للحق تعالى، ويظهرون أقصى آيات التعظيم له، ويقفون أمامه خاشعين، وعند السجود يستوي عندهم موضع أقدامهم مع موضع جباههم.
وبنسبة إحساسنا بشعور الجماعة في قلوبنا نستطيع تذوق كل صور جمال عصور الأنبياء والإحساس بها.
أجل.. إن من يتواصل مع تناغم الصلاة السماوية، فإن كل حركة وراء الإمام في الصلاة وكل كلمة، هي عند ابن آدم صوت داء الوصال، وصوت حسرة للجنة المفقودة، وتظهر بشكل شعور بالأمل وبالفرح بالوصال.
والصلاة بالنسبة لمعظم من ترك نفسه في الجو المعراجي للصلاة تعد إشراقات فجر للأيام الحلوة التي تملأ خيالاتنا لعهودنا في الجنة من قبل، أو للجنات المقبلة.
وتنسلخ أرواحنا من الجو القاسي للجسد، وتنفعل مرة أخرى بأمل الوصال. ومع أنه لا يكون في كل صلاة ولا في كل صلاة فريضة فإن أرباب القلوب يستطيعون السياحة بين عالم الأزل والأبد عدة مرات في اليوم الواحد، ونجد في أعماقنا لذة آلاف الذكريات وكأننا نرتشف ماء الكوثر. وتهمس قلوبنا بأبيات الشاعر نسيمي:
مكاني أصبح لا مكانا
انقلب كياني كله روحا
وتجلي عندي نظر الحق عيانا
فغبت عن نفسي من لذة الوصال...
مكاني أصبح لا مكانا
انقلب كياني كله روحا
وتجلي عندي نظر الحق عيانا
فغبت عن نفسي من لذة الوصال...
وبعد الوقوف للصلاة يود هؤلاء العباد الصادقون أن يعلنوا عن طريق الركوع مدى انفعال أرواحهم الصافية، وعن ارتجافات ورعشات أفكارهم النيرة المستقيمة التي لا عوج فيها ولا التواء.
وبشعور خليط من الإحساس بأنهم تجاه عظمة وجبروت، وأمام رحمة ولطف ينحنون مثل انحناء عصا، وهم يتمتمون بصوت خافت وبشعور من العبودية يلف كل كيانهم. يتمتمون دوما عن العظمة الإلهية، ويدقون باب الحضرة الإلهية بالركوع الذي يعد أسلوب توجه أهل السماء وإبداء خضوعهم له.
وبنسبة انفراج ذلك الباب يستطيعون الوصول إلى أعماق عالمهم الروحي. ففي كل ركوع تقريبا يتم لمس مطرقة باب الحضرة الإلهية العظمى بالتكبير والحمد، وبالمشاعر التي تتداعى بهذه الكلمات.
ينفث الركوع الذي يأتي بعد خطوة واحدة من الوقوف في الصلاة نفحاته علينا، ويهمس في أرواحنا همسات أجمل من الحياة نفسها، وأثمن من الأذواق الجسمية، وعن رؤيا لا يمكن أن نتخيلها أو نتصورها، ولا يمكن أن تتحقق في هذه الدنيا أبدا. ويعد قلوبنا أمورا تتجاوز بكثير ما ننتظره أو نتوقعه.. يعدها بأيام ودقائق زمردية وراء هذا العالي.
ألسنا جميعا أبناء أفكارنا وخيالاتنا وآمالنا بوجه من الوجوه؟ فعندما اهتدينا إلى الحقيقة بعد أن قاسينا الكثير في هذه الأيام الصعبة؛ فإننا نتجاوز الزمن الذي نوجد فيه ونثبت أنظارنا على "الزمن الآتي" بأمل الحصول على السعادة؛ حيث نتأمل باسمين سفوح الجنة.
ويحمل الركوع ببعده الذي يحمل معنى الانحناء أمام الحق تعالى توقيرا وتعظيما له؛ لذا فهو يأخذ معنى الانحناء من كل من أحنى ظهره، وأحيانا عندما نقول: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ} ... (يوسف: 86)؛ فنشعر برائحة قميص يوسف من عالم يوسف عليه السلام، وصوت خرير ماء الحياة.
السجدة هي أرضية وخلفية الشكر، ووعاء المهابة الذي تصهر فيه العبودية، وتسكب إلى قلب وقالب الواصلين. وكلما شعرنا بالسجود على وجهه الحقيقي، وتفاعلنا معه نحس -ونحن ننتقل من القيام في الصلاة إلى الركوع ثم القيام- وكأن هناك عصارة من الإيمان ومن الإسلام ومن الإحسان تنسكب إلى التلال الزمردية لقلوبنا وتنساب إليها.
عند السجود تلتقي جبهتنا وأقدامنا في المستوى نفسه، ونشكل نصف قوس، ونتوتر مثل وتر القوس، وننقلب إلى نفس وإلى صوت أنين؛ فنحس أن وسعة آمالنا تسبق أعمالنا، وتكفي كل شيء، وأن رحمة الله تسبق كل شيء عندما تتحد مع إيماننا وتكون وحدة معها؛ فنشعر وكأننا نمر من تحت أكاليل سماوية يقع طرف منها في عالمنا، والطرف الآخر في دار العقبى محاولين تغيير حظوظنا.
وبسكر هذا الشعور، يرفع رأسه بكل توقير من السجود مبديا تعظيمه وعرفانه بكرمه تعالى لكي يلون شعوره بالوصال ببعد آخر، ويقول: "التحيات لله..." بكل الأدب الذي يقتضيه وجوده في الحضرة الإلهية، ويأخذ به الوجد حتى كأنه لم يعد كائنا من كائنات هذه الدنيا، أي يأخذ حالا ومعنى وسحرا فوق الطبيعة.
وبعاطفة لا تعرف الارتواء ولا الشبع يتوجه بطل الصلاة بهذه المشاعر الفوارة -خارج حدود الكم والكيف، والمتعمقة بالنية الخالصة التي يخلد بها يقينه ويرتبط بها بالله تعالى- لأداء فرض الشكر للحق تعالى على كل نعمة من حياة ومال وسائر نعمه الأخرى؛ فيذكر الله بكل مشاعر كيانه ويئن... يذكر النبي، فيمتلئ داخله بالانشراح... ويفكر بالمؤمنين الذين يشاطرونه السعادة نفسها فيدعو لهم بالخير.. ثم ينهي صلاته التي بدأها بالتكبير بالشهادة التي هي أساس الدين، وأساس رحلة المعراج هذه.
ولا يشبع الذين تعودوا على أداء الصلاة منها أبدا، بل يقول كل منهم عقب الانتهاء من كل صلاة: "هل من مزيد؟"، فينتقل من صلاة نافلة، إلى نافلة أخرى، ويرتفع كالشمس في صلاة الضحى، ويلمس بصلاة الأوابين مطرقة باب القرب من الله، ويرسل الأنوار بصلاة التهجد إلى ظلام البرزخ، ويحاول أن ينسج حياته بالصلاة مثلا دانتيلا جميلة، ولا يدير رأسه أبدا عن العالي النوراني الذي يعيش فيه..
المصدر: موقع إسلام أون لاين
بواسطة / المشرف العام للموقع
أ / أمير محمد